كان سويتشيرو فوكوتاكي يتجول في معرض مكرس لكلود مونيه في متحف بوسطن للفنون الجميلة عندما استوقفته لوحة زيتية كبيرة ذات جزأين لم تعرض من قبل صورت عليها زنابق المياه.
تسمرفي مكانه من شدة الدهشة. وقرأ على لوح صغير معلق على الحائط أن اللوحة قد استعيرت من صالة عرض في باريس.
ما لبث أن فكر أن هذا نبأ سار: لأنه يعني أن اللوحة ليست محصورة في مجموعة متحف دائمة. حدث ذلك عام 1998.
اليوم، ها هي لوحة "بحيرة زنبق الماء" (1915-1926) معلقة في متحف تشيتشو للفنون الخاص بفوكوتاكي، الذي فتح أبوابه يوم الأحد الماضي في جزيرة ناووشيما الرائعة في غرب اليابان.
قال فوكوتاكي، الرئيس والمدير التنفيذي لشركة "بينيسي كوربوريشون"، الامبراطورية اليابانية المتخصصة في الخدمات التربوية، وكان قد غاب عن وجهه أي تعبير: "كانت اللوحة تتوسل إلي لكي آخذها معي. ماذا كان عساي أن أفعل غير ذلك؟".
كان بإمكانه أن يشتري كاتالوغ المعرض مثل غيره من الناس، لكن هذا ليس نمطه في التصرف. فوكوتاكي، 58 عاما، هو جامع التحف الفنية الأكثر شهرة ونشاطا من بين الذين عرفتهم اليابان فيما بعد فترة الازدهار الاقتصادي. وخلافا للمستثمرين اليابانيين في ثمانينات القرن الماضي، الذين دفعوا ملايين الدولارات لشراء لوحات بيكاسو ورنوار وفان غوخ وما لبثوا أن خبؤها في المستودعات، يؤمن فوكوتاكي إيمانا قويا بوجوب فتح المجال أمام الجمهور للاستمتاع بمجموعته.
لكن هذه الفرصة لا تسنح إلا للراغبين في السفر ليس إلا: ذلك لأن الرحلة في السفينة إلى جزيرة ناووشيما تدوم 20 دقيقة انطلاقا من أوكاياما، وهي أقرب مدينة كبيرة واقعة على بعد 700 كيلومتر جنوب غرب طوكيو.
إن هذه الرحلة تستحق العناء. إن متحف تشيتشو ليس إلا آخر مبنى في مخطط فوكوتاكي الرامي إلى تحويل جزيرة ناووشيما النائية وكثيرة التلال إلى مركز دولي رئيسي للفنون.
إن الذين يعرفون جامع التحف الفنية هذا يقولون إنه يعيش حياة متواضعة- لا يملك سيارات براقة ولا يرتدي بدلات المصممين الفاخرة- إلا عندما يتعاطى مع الفن.
تتولى شركته المتمركزة في أوكاياما إدارة دروس بالمراسلة مخصصة للأولاد ودور للعجزة ومجلات تعالج مواضيع أنماط العيش وشبكة "برليتز" الدولية لمعاهد تعليم اللغات.
وقد اشترت هذه الشركة الجزء الجنوبي من الجزيرة عام 1987 مقابل بليون ين. اعتبر فوكوتاكي إثر عقود من الزمن تركز فيه الاهتمام على الازدهار الاقتصادي- وما تبعه من ركود- أن اليابانيين بحاجة إلى إعادة اكتشاف ذاتهم من خلال الفنون الجميلة.
قال: "إن الفن وسيلة تساعد الشخص على أن يفكرمليا في ذاته، لكن ذلك يتطلب محيطا معينا. إنني اؤمن بسلطان الفن ".
استخدم مهندسا معماريا يابانيا، هو تاداو أندو، لكي يصمم له بيت بينيسي الذي افتتح في ناووشيما عام 1992، وهو مؤلف من متحف وفندق صغير مجتمعين في مبنى واحد.
وسرعان ما استضاف هذا المتحف روائع فنية لفناني القرن الـ 20 من أمثال جاسبير جونز وجاكسون بولوك وديفيد هوكني وبروس نومان.
بعد ذلك، بدأ فوكوتاكي يوظف فنانين دوليين من أمثال جانيس كونيليس وريتشارد لونغ، وكاي غوو كيانغ وتاتسوو مياجيما وجيمس توريل لكي يصنعوا له أعمالا فنية فريدة من نوعها تتكيف مع المحيط العام.
على سبيل المثال، استعمل كونيليس الخشب المجروف على شواطئ ناوشيما لصنع منحوتته، فيما أعاد مياجيما ترميم منزل قديم يرجع تاريخ بنائه إلى 200 سنة، فحوله إلى مبنى فسيح أطلق عليه اسم "كادويا".
قال يوجي أكيموتو، مدير متحف تشيتشو للفنون: "إن تكليف الفنانين بإنجاز أعمال تتكيف مع جو الموقع قد ساهم في إعطاء الجزيرة هوية جديدة".
ومع انتشار شهرة جزيرة ناووشيما، صار محبو الفن يتوافدون إليها من كل أرجاء البلاد. منذ عام 1995، تزايد عدد الزوار سبعة أضعاف ليبلغ حد 74.000 زائر العام الماضي.
إنه تغيير مرحب به في الجزيرة، لا سيما وأن تراجع نشاط الموظف الأساسي فيها، وهو مصنع لتنقية النحاس، قد أدى إلى انخفاض عدد سكانها من 8,000 نسمة في ستينات القرن الماضي إلى نحو 3,600 نسمة حاليا.
بعد أن صادف فوكوتاكي لوحة مونيه الضخمة في بوسطن، وبعد أن أقدم على شرائها عام 2000 مقابل مبلغ لم يفصح عنه، قرر أن يبني متحفا آخر، تشيتشو، والذي يعني حرفيا، "تحت الأرض". إن طبقات المتحف الثلاث، التي صممها أندو أيضا، مطمورة في الأرض. يقول فوكوتاكي إن الفكرة خطرت على باله عندما كان يتناقش مع الفنانين والمهندس المعماري حول موضوع العلاقة القائمة بين الفن والطبيعة؛ انسحب أندو من أجل أن يفسح المجال أمام الأعمال الفنية وجمال المناظر الطبيعية في ناووشيما لكي تظهر في أجمل حله.
يتضمن معرض المتحف الدائم تسعة أعمال فقط تعود لثلاثة فنانين: مونيه والفنانين المعاصرين والتر دي ماريا وجيمس توريل. لكن كل عمل من هذه الأعمال يستحوذ على اهتمام الزائر إلى حد أنه يتطلب وقتا طويلا لاستيعابه. على سبيل المثال، إن أعمال دي ماريا "الزمن/ بدون زمن/ لا زمن (2004) تحتل مساحة غرفة بكاملها وتتميز بهيبتها بحيث يخال إليك أنك في إحدى الكاتدرائيات.
ويؤدي الدرج إلى مسطحة حيث وضعت كرة كبيرة سوداء مصنوعة من حجر الغرانيت. أما العواميد الخشبية المزخرفة فهي منصوبة على أبعاد ومستويات مختلفة على طول الجدران فتذكرنا بأنابيب آلة الأورغ.
تعلو كرة الغرانيت فتحة مستطيلة الشكل في سقف الغرفة. فتنعكس في الكرة المصقولة السماء والعواميد المزخرفة والزوار لتعطي صورة دائمة التحول.
في صالة عرض أعمال مونيه، تتلألأ اللوحتان الضخمتان المتضمنتان زنابق المياه المغمورة بالألوان الأزرق والوردي والبنفسجي تحت تأثير أشعة النور الطبيعي الذي ينسل من خلال شقوق في السقف. تحيط بهذه اللوحة المركزية الرائعة أربع لوحات أخرى لمونيه.
يخطط فوكوتاكي توسيع إمبراطوريته الفنية، لكن قد يتطلب ذلك رحلة أخرى على متن إحدى السفن. في خلال السنوات القليلة المقبلة، يأمل أن يفتتح متحفا في جزيرة إينوجياما القريبة، التي اشتراها عام 2001. يعيش أقل من 80 شخصا (يبلغ متوسط عمرهم 70 سنة) في هذه الجزيرة، ووسائل النقل أقل انتظاما مما هي عليه بالنسبة إلى جزيرة ناووشيما. لكن التحديات لا تثبط عزيمة فوكوتاكي. قال: "إن عدم توافر وسائل الراحة لم يطرح أي مشكلة من قبل ". إنها مناسبة تسنح له الفرصة بأن يختبرسلطان الفن المغري.